ولم يجد المستشرقون ، الذين ينظرون بعين النقد الدقيق للتأريخ الإسلامي ، أيَّ إشارةٍ إلى وجود معرفةٍ له (ص) بالقراءة والكتابة ، ولذا فقد اعترفوا بعد لأيٍّ بأنّه كان أمّياً ترعرع في أُمّةٍ أمّيةٍ .
يقول كارليل في كتابه ( الأبطال ) :
( يجب أن لا ننسى شيئاً ؛ وهو أنّ محمّداً لم يتلقَّ أيّ تعليم لدى أيّ معلّم ، فقد كانت صناعة الخطّ قد وجدت حديثاً بين الشعب العربي . أعتقد أنّ الحقيقة هي : أنّ محمّداً لم يكن يعرف الخطّ والقراءة ولم يكن يعرف إلاّ حياة الصحراء).
ويقول ويل ديورانت في كتابه ( قصّة الحضارة ) :
( الظاهر أنّه لم يكن أحد يفكّر في تعليمه ( أي : تعليم الرسول الأكرم ) القراءة والكتابة ، فلم تكن صناعة الكتابة والقراءة ذات أهمّية في نظر الأعراب ، ولهذا لم يكن يتجاوز الذين يعرفون القراءة والكتابة سبعة عشر شخصاً . ولسنا نعلم أنّ محمّداً قد كتب شيئاً بنفسه . لقد كان له كاتب خاص بعد النبوّة ومع ذلك فقد جرى على لسانه أعرف الكتب العربية وأشهرها وقد عرف دقائق الأمور أفضل بكثير من المعلّمين ) .
الصفحة 8
ويقول ( جان ديون يورث ) في كتابه ( الاعتذار إلى محمّد والقرآن ) :
( وحول التعليم والتربية ـ كما هو متداول في العالم ـ يعتقد الجميع : أنّ محمّداً لم يتعلّم ولم يعرف سوى ما كان متداولاً في قبيلته ) .
ويقول ( كونستان ورزيل كيوركيو) في كتابه : ( محمّدٌ .. النبيّ الذي تجب معرفته من جديد ) :
( مع أنّه كان أمّياً فإنّا نجد الحديث عن القلم والعلم ، أي : الكتابة والتكتيب ، والتعلّم والتعليم ، في أوائل الآيات النازلة عليه ، ولم يكن في أيّ من الأديان الكبرى اهتمام شامل بالمعرفة ، ولا يمكن أن نجد ديناً يحتلّ العلم والمعرفة فيه محلاً بارزاً كما كان الأمر في الإسلام . ولو كان محمّد عالماً لما كان في نزول هذه الآيات عليه في غار حراء مجال تعجّب ؛ لأنّ العالم يعرف قدر العلم ، ولكنّه كان أُمّياً ولم يدرس على أيّ معلم . وأنا بدوري أهنئ المسلمين على احتلال طلب المعرفة هذا المقام السامي في مبدئهم ) .
ويقول ( كوستاف لوبون ) في كتابه ( الحضارة العربية الإسلامية ) :
( المعروف أنّ النبيّ كان أُمّياً ، وهو يطابق القياس والقاعدة ؛ إذ لو كان من أهل العلم لكان ارتباط مطالب القرآن ومواضيعه أفضل ممّا هو عليه الآن ، بالإضافة أنّه مطابق للقياس أيضاً من جهة أنّه لو لم يكن أمّياً لما استطاع أن يأتي بمذهب جديد وينشره ، ذلك أنّ الإنسان الأُمّي هو أعلم وأكثر معرفة باحتياجات الجهّال ، وهو يستطيع بشكل أفضل أن يسير بهم
الصفحة 9
إلى الصراط السوي . وعلى أيّ حالٍ وسواء كان أمياً أم لم يكن ، فليس هناك أيّ ريب في كونه يمتلك أرقى عقل وفراسة وذكاء ) .
ورغم أنّ ( كوستاف لوبون ) لم يكن يستوعب المفاهيم القرآنية من جهة ، ورغم أفكاره المادّية من جهة أخرى ، ممّا لم يجعله يدرك الترابط بين الآيات القرآنية ودفعه لأن يطرح كلاماً سخيفاً حول عجز العالم عن معرفة احتياجات الجاهل ، وبالتالي يوجه الإهانة للقرآن والنبيّ ، رغم كلّ هذا ، فهو يعترف بعدم وجود أيّ سند أو علامة على وجود سابق معرفةٍ لنبيّ الإسلام بالقراءة والكتابة .
والواقع أنّنا لم نكن نهدف من خلال نقل عبائر هؤلاء إلى الاستشهاد بحديثهم ، فإنّ المسلمين هم أولى بإظهار النظر في تأريخ الإسلام من غيرهم ، وإنّما كنا نهدف إلى التأكيد ، لكلّ أولئك الذين لا يمتلكون بأنفسهم مطالعات تأريخية ، على أنّه لو كانت هناك أيّة علامة في هذا المجال فإنّها لم تكن لتخفى على المؤرِّخين الباحثين والنقّاد من غير المسلمين .
ولقد كان للرسول الأكرم (ص) لقاء سريع مع راهب يدعى ( بحيرا ) (1) في إحدى فترات استراحته في طريقه من مكّة
ـــــــــــ
(1) يشكّك البروفيسور ماسينيون ـ المستشرق المعروف ، والمتخصّص في العلوم الإسلامية ـ في كتابه ( سلمان الطاهر ) في أصل وجود مثل هذا الشخص ، فضلاً عن لقائه بالنبيّ (ص) ، ويعتبره شخصية أسطورية ، فيقول :
( وبحيرا سرجيوس وتميم الداري وغيرهما ، ممّن جمعهم الرواة حول النبيّ ، هي أشباح أسطورية لا يمكن الحصول على أثر لها ) .
الصفحة 10
إلى الشام بصحبة عمّه أبي طالب ، ولقد استأثر هذا اللقاء السريع باهتمام المستشرقين فراحوا يتساءلون : هل تعلّم النبيّ شيئاً خلال هذا اللقاء القصير ؟
فإذا كانت هذه الحادثة الصغيرة قد جلبت أنظار المخالفين القدامى والجدد ، فإنّه بالأحرى أن يجلب انتباههم وجود أيّ سندٍ يدل على سابق معرفة للرسول الأكرم بالقراءة والكتابة ، وعدم خفاء ذلك عليهم ، بل أنّ مثل هذا السند ـ لو وجد ـ سوف يقع حتماً تحت مجاهرهم التي تكبّره مرات عديدة .
ولكي نوضّح هذا الأمر ينبغي أن يتناول البحث مجالين :
الأوّل : مجال ما قبل البعثة .
الثاني : مجال ما بعد البعثة .
ويجب أن نركِّز في مجال ما بعد البعثة على القراءة والكتابة ، وسوف نجد أنّ المسلَّم والقطعي الذي يتّفق عليه العلماء المسلمين وغيرهم أنّه (ص) : لم تكن له أيّ معرفة بهما قبل البعثة . ولكنّ الأمر ليس كذلك وبهذا المستوى من الوضوح بالنسبة لعصر الرسالة ؛ فالذي يقرب من الواقع في هذا العصر أنّه لم يكن يكتب أمّا عدم قراءته فقد وقع فيه خلاف ، ويظهر من بعض الروايات الشيعية أنّه (ص) : كان يقرأ في عصر البعثة دون أن يكتب . وإن كانت الروايات الشيعية مختلفة وغير متطابقة على ذلك .
ولكن الذي نستفيده من مجموع القرائن والدلائل هو : أنّه (ص) لم يكن يقرأ أو يكتب حتى في عصر البعثة .
ولمعرفة عصر ما قبل الرسالة يلزمنا البحث عن الوضع العام
الصفحة 11
للقراءة والكتابة في الجزيرة العربية .
وما يستفاد من التواريخ أنّه أبّان ظهور الإسلام لم يكن هناك سوى أفرادٍ معدودين يعرفون القراءة والكتابة .
يحدّثنا البلاذري في آخر كتابه ( فتوح البلدان ) عن بدء تداول الخط في الحجاز ، فيقول :
( اجتمع ثلاثة نفر من طيء ببقة وهم : مرامر بن مرّة ، وأسلم بن سدرة ، وعامر بن جدرة ، فوضعوا الخط وقاسوا هجاء العربية على هجاء السريانية ، فتعلّمه منهم قوم من أهل الأنبار ، ثمّ تعلّمه أهل الحيرة من أهل الأنبار ، وكان بشر بن عبد الملك أخو الأكيدر بن عبد الملك بن عبد الجن الكندي ، ثمّ السكوني صاحب دومة الجندل يأتي الحيرة فيقيم بها الحين وكان نصرانياً فتعلّم بشر الخط العربي من أهل الحيرة .
ثمّ أتى مكّة في بعض شأنه فرآه سفيان بن أمّية بن عبد شمس ، وأبو قيس بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب ، يكتب فسألاه أن يعلّمهما الخط ، فعلّمهما الهجاء ، ثمّ أراهما الخط فكتبا .
ثمّ أنّ بشراً وسفيان وأبا قيس أتوا الطائف في تجارة ، فصحبهم غيلان بن سلمة الثقفي فتعلّم الخط منهم ، وفارقهم بشر ومضى إلى ديار مصر فتعلّم الخط منه عمرو بن زرارة بن عدس ، فسمّي عمرو الكاتب . ثمّ أتى بشر الشام فتعلّم الخط من ناس هناك .
وتعلّم الخط من الثلاثة الطائيين أيضاً رجل من طابخة كلب
الصفحة 12
فعلّمه رجلاً من أهل وادي القرى ، فأتى الوادي يتردّد فأقام بها وعلّم الخط قوماً من أهلها ) (1) .
هذا ويشير ابن النديم في الفهرست ( الفنّ الأوّل من المقالة الأولى ) (2) إلى كلام البلاذري الآنف ، ثمّ يروي عن ابن عبّاس : أنّ أوّل من تعلّم الخط العربي هم ثلاثة أشخاص من قبيلة ( بولان ) وهي قبيلة من الأنبار ، ثمّ تعلّمه أهل الحيرة من أهل الأنبار .
وكذلك نجد ابن خلدون يذكر بعض الكلام الآنف ويؤيّده في مقدّمته : ( فصل في أنّ الخط والكتابة من عداد الصنائع الإنسانية ) .
وينقل البلاذري رواية يقول فيها : دخل الإسلام وفي قريش سبعة عشر رجلاً كلّهم يكتب : عمر بن الخطاب ، وعليّ بن أبي طالب ، وعثمان بن عفّان ، وأبو عبيدة الجراح ، وطلحة ، ويزيد بن أبي سفيان ، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، وحاطب بن عمرو أخو سهيل بن عمرو العامري من قريش ، وأبو سَلَمة بن عبد الأسد المخزومي ، وأبان بن سعيد بن العاص بن أُمَية ، وخالد بن سعيد أخوه ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري ، وحويطب بن عبد العزى العامري ، وأبو سفيان
ــــــــــــــــ
(1) فتوح البلدان ، ص580 ، طبع مطبعة النهضة المصريّة .
(2) طبع الاستقامة بالقاهرة ، ص 13 .
الصفحة 13
بن حرب بن أُمَية ، ومعاوية بن أبي سفيان ، وجُهيم بن الصلت بن مخرمة بن المطلب بن عبد المناف ، ومن حلفاء قريش : العلاء بن الحضرميّ .
ثمّ أنّ البلاذري يذكر اسم امرأة قرشية واحدة كانت في الجاهلية المعاصرة لظهور الإسلام تعرف القراءة والكتابة ، وهي ( الشفاء ) بنت عبد الله العدوي التي أسلمت وكانت من المهاجرين الأوّلين ، ويذكر أيضاً أنّها علمت حفصة زوجة النبيّ (ص) الكتابة وقد قال لها النبي (ص) يوماً :( ألا تعلّمين حفصة رُقية النملة كما علّمتها الكتابة ؟! ) .
ــــــــــــــــ
(1) في فتوح البلدان المطبوع في مطبعة السعادة في مصر سنة 1959 جاءت هذه الكلمة : ( رقنة النملة ) وهو من اشتباه النسخ ، والصحيح هو ( رقية ) كما جاء في نهاية ابن الأثير مادّة ( نمل ) . والرقية : هي من العبارات التي كانت تقرأ لدفع البلاء والمرض ، ويذكر ابن الأثير في مادّة ( رقي ) أنّ بعض الأخبار المنقولة عن النبي الأكرم تمنع ( الرقي ) والأخرى تجوّزها ، ويدّعي أنّ أحاديث المنع ناظرة إلى التعويذ بغير اسم الله ، وأن لا يعتمد الإنسان على توكّله على الله وإنّما يعتمد على هذه الرقي ، أمّا أحاديث التجويز فهي ناظرة إلى أن يتوسّل الإنسان بالأسماء الإلهية ويطلب من الله التأثير .. أمّا ابن الأثير فيؤكّد أنّ ما كان معروفاً باسم ( رقية النملة ) لم يكن من نوع الرقي المعروفة ، وإنّما كانت جملاً معروفة يدرك الجميع أنّها لا تنفع ولا تضرّ . وأنّ الرسول (ص) أراد أن يمازح وبالضمن يلمّح بالكناية لزوجته حفصة فقال ذلك لـ ( الشفاء ) .
وتلك الجمل هي : ( العروس تحتفل وتختضب وتكتحل ، وكلّ شيء تفتعل ، غير أن تعصي الرجل ) . وهنا يؤكّد ابن الأثير أنّه (ص) أراد أن يقول للشفاء بأنّها كما علمت حفصة الكتابة كان من الصحيح أن تعلّمها رقية النملة وهي =
الصفحة 14
ثمّ يذكر البلاذري بعض النساء اللواتي كنّ يكتبن ويقرأنَ في العهد الإسلامي ، أو اللواتي كنَّ يقرأن فقط ، فمثلاً حفصة زوجة النبيّ كانت تقرأ ، كذلك ابنة عقبة بن أبي معيط (من النساء المهاجرات الأوّليات) كانت تكتب ، في حين أخبرت ابنة سعد أنّ أباها علّمها الكتابة ، وكذلك كانت ابنة المقداد تكتب ، أمّا عائشة ـ زوجة النبيّ ـ فكانت تقرأ ولا تكتب وكذلك أُمّ سَلَمة .
ثمّ يذكر البلاذري أسماء أولئك الذين كانوا يكتبون للنبيّ (ص) ، ثمّ يؤكّد أنّه لم يتجاوز الذين كانوا يعرفون القراءة والكتابة عند ظهور الإسلام الأحد عشر رجلاً من الأوس والخزرج ( وهما القبيلتان المعروفتان اللتان تسكنا المدينة ) ، ثمّ يذكر أسماءهم بعد ذلك .
ومن كلّ ما سبق نعلم أنّ صناعة الخطّ كانت وردت إلى البيئة الحجازية حديثاً ، وأنّ الوضع كان بحيث إذا عرف أحد الكتابة أشير إليه بالبنان ، وأنّه لم يتجاوز الذين يعرفونها ـ سواء في مكّة أو في المدينة ـ عدد الأصابع آنذاك ، ولذا نجد التأريخ قد سجّل أسماءهم ، ولو كان رسول الله (ص) منهم لعُرِف بذلك حقّاً ، وإذا لم يذكر في عدادهم فهذا يكشف بوضوح عن أنّه (ص) لم يكن يعرف قراءة أو كتابة .
ــــــــــــــ
= إشارة إلى أنّ حفصة لم تطع زوجها وكشفت عن سرٍّ قاله لها ( وهو السرّ المعروف تأريخيّاً ، والآية الأولى من سورة التحريم تنظر إليه )