الصفحة 42
الصفحة 43
يدّعي الدكتور المذكور : أنّه يستفاد بصراحة من آيات القرآن أنّ النبيّ كان يقرأ ويكتب ، ومنها الآية (164) من سورة آل عمران : وهي قوله تعالى : ( لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ) .
فيقول الدكتور بهذا الصدد : ( وبناءً على ما صرّح به القرآن ، فإنّ أوّل واجبات النبيّ هو تعليم القرآن لأتباعه ؛ ومن المسلّم به أنّ أقلّ ما يتطلّب في من يراد له أن يعلّم كتاباً أو محتويات كتاب ما للآخرين هو ـ كما صرّح به القرآن نفسه ـ أنّ يستطيع استعمال القلم أو قراءة ما كتب بالقلم ، على الأقل ) .
وهذا الاستدلال عجيب ـ كما يبدو ـ وذلك :
أوّلاً : لأنّ ما أتّفق عليه المسلمون ، وما يريد الدكتور لينفيه ، هو أنّ النبيّ الأكرم قبل الرسالة لم يكن ليكتب أو يقرأ ؛ في حين أنّ أقصى ما يتصوّر لهذا الاستدلال من نتيجة هي أنّه كان يحسنهما في عصر الرسالة ، كما أعتقد بذلك السيد المرتضى والشعبي وجماعة آخرون ، فلا يثبت بهذا مدّعى الدكتور .
الصفحة 44
وثانياً : لأنّ هذا الاستدلال لا يتمّ حتى بالنسبة إلى عصر الرسالة ؛ وتوضيح الأمر : أنّ التعليمات المعطاة هي على نمطين ، فالنمط الأوّل تعليمات من قبيل تعليم الكتابة والقراءة والرياضيات وأمثالها ، وفيها يحتاج المعلّم إلى القلم والقرطاس ، ووسائل التوضيح والسبورة ، وأمثالها ، بالإضافة إلى قيام المعلّم بنفس العمل لتحقيق التعليم المطلوب . أمّا النمط الثاني من قبيل الحكمة والفلسفة والأخلاق ، والحلال والحرام ، وهو عمل الأنبياء ، فلا يحتاج مطلقاً إلى قلم وقرطاس ورسم وسبورة ، ومن هنا رأينا الحكماء المشّائين سمّوا بذلك لأنّ المعلّم منهم كان يعلم تلامذته أثناء مشيه ، نعم قد يكون من اللازم للتلاميذ أن يعرفوا الكتابة ليدوّنوا ما يلقى عليهم لئلا تناله يد النسيان ، ولهذا كان رسول الله (ص) يوصي أصحابه بالضبط والتقييد ، ويقول : ( قيدوا العلم ) وعندما يتساءلون عن كيفية تقييده يأمرهم بالكتابة ) (1) .
ويقول : ( نضّر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها ، وبلّغها من لم يسمعها ) (2) ، وهناك حديث يترحّم فيه الرسول (ص) على خلفائه ، وعندما يتساءل المسلمون عن خلفائه هؤلاء مَن هم ؟ يجيبهم : بأنّهم الذين يأتون من بعده يأخذون سنّته ويعلّمونها الآخرين (3) . ويقول (ص) : ( من حقّ الولد على الوالد :
ـــــــــــــــ
(1) البحار ، ج2 ، ص 151 .
(2) الكافي ، ج1 ، ص 403 .
(3) البحار ، ج2 ، ص 144 .
الصفحة 45
أن يحسن اسمه ، وأن يعلّمه الكتابة ، وأن يزوّجه إذا بلغ ) . وهذا القرآن الكريم يقول ـ بكلّ صراحة ـ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ) [ البقرة : 282 ] . ولهذا وجدنا المسلمين اتّجهوا لتعلّم الكتابة والقراءة كصناعة مباركة ؛ إطاعة لأوامر قرآنهم ونبيهم (ص) ، وحفظاً لآثارهم الدينية ، وأداءً لحقوق أولادهم ، وتنظيم أمور معاشهم . فوجدت في التاريخ نهضة الحرف والقلم ، تلك النهضة التي صنعت من أناس يعد قارئوهم بالأصابع أناساً يعبّون العلوم وينشرون القراءة والكتابة ، حتى أنّ البعض منهم تعلّم عدّة لغات استطاع من خلالها أن يوصل صوت الإسلام ورسالته إلى أنحاء العالم .
وكتب التأريخ تحدّثنا أنّ أسرى بدر كان بعضهم يطلق سراحه لأنّه فقير ، في حين كان النبيّ الأكرم يعقد مع من يعرف منهم الخط عقداً يقوم كلّ منهم بموجبه بتعليم عشرة من أطفال المدينة القراءة والكتابة ليتحرّروا بعد ذلك . (1)
نعم ، اهتمّ النبيّ (ص) إلى هذا الحدّ بإشاعة هذه الصنعة بين المسلمين واندفاعهم نحو العلم والمعرفة ، ولكن كلّ هذا لا يوجب ـ البتّة ـ أن يكون شخص النبيّ (ص) محتاجاً للاستفادة في مجال تعليمه وتبليغه من القراءة والكتابة (2)
ـــــــــــــــ
(1) وسائل الشيعة ، ج3 ، ص 134 .
(2) تاريخ الخميس للديار بكري ، ج1 ، ص395 . والسيرة الحلبية ، ج 2 ، ص 204 .
الصفحة 46
يقول السيد عبد اللطيف : ( إنّ الله يذكر القلم والكتاب في أوّل سورة قرآنية ، ألاَ يشكّل هذا دليلاً واضحاً وصريحاً على أنّ النبيّ (ص) كان يعرف القراءة والكتابة ... وهل يمكن أن يشوّق النبي (ص) الناس للعلم والمعرفة والكتابة وهو لا يعتني بقراءته وكتابته ، مع أنّه كان في الطليعة في كلّ المجالات ؟! ) .
وهذا الاستدلال عجيب أيضا ..
فطبيعي ـ عبر هذه الآيات ـ أن يعلم الله منزلها على عبده لهداية عبادة ، وأن يعلم النبيّ الذي أنزلت هذه على قلبه المقدّس قيمة الكتابة والقراءة في حياة الإنسان ، ولكنّ هذا لا يشكّل أيّ دليل على أنّ الله تعالى كان يتعامل مع القراءة والكتابة والقلم والقرطاس ، وكذا الرسول الأكرم (ص) .
أمّا مسألة : كيف يأمر النبيّ (ص) ولا يعمل هو بما يأمر ؟! فهي تماماً مثل التساؤل القائل : كيف لا يعمل الطبيب بالنسخة التي يكتبها لمريضه ؟ نعم ، إذا تمرّض الطبيب عمل بها بعد أن وجدت نفس الضرورة عنده ، بل كان أولى من غيره بالعمل بها . ولكن هل يلزمه أن يعمل بما يكتبه لمرضاه حتى لو لم يكن مريضاً مثلهم ؟!
وهنا يجب أن نلاحظ مدى إحساس النبيّ (ص) بالضرورة التي يحسّها غيره من حيث الكتابة والقراءة لتشكّل معرفتهم لها كمالاً ، وفقدانهم لها نقصاً .
إنّ الرسول (ص) كان طليعياً في مجالات العبادة والتضحية
الصفحة 47
والتقوى والصدق والحسن ، وحسن الخلق والشورى والتواضع ، وسائر الأخلاق والآداب الحسنة ؛ لأنّها كلّها تعدّ كمالاً له في حين يعد فقدانها نقصاً ، ولكنّ موضوع القراءة والكتابة ليس من هذا القبيل .
إنّ قيمة القراءة والكتابة الأساسية لهذا الإنسانية تكمن فيما تؤدّيانه من خدمات ، إذ توصلان الإنسان إلى معرفة ما يدور في خلد غيره وتساعدانه على أن ينقل ما يدور في خلده إلى الغير ، ذلك أنّ الخطوط رموز وعلامات يتّفق عليها البشر لتفهيم أفكارهم ومقاصدهم ، والتعرّف على الخطوط وسيلة لانتقال المعلومات من فرد إلى آخر ، وشعب إلى آخر ، ونسل إلى آخر ، وبهذا يحفظ الإنسان معلوماته من الفناء والنسيان .
وعليه ، فامتلاك القدرة على الكتابة والقراءة هو بمنزلة معرفة لغة ما ، وبالمقدار الذي يتعرّف فيه الإنسان على لغات أكثر فإنّه يمتلك وسائل أكبر لكسب المعلومات الإنسانية .
ومن هنا نعرف أنّ معرفة اللغة والقراءة والكتابة ليست علماً بالمعنى الواقعي ، وإن كانت تشكّل مفتاح العلوم ، فالعلم هو إدراك إنساني لحقيقة وقانون واقعي ، وذلك كما ندركه في العلوم الطبيعية والمنطق والرياضيات ، حيث يكتشف فيها الإنسان روابط واقعية تكوينية وعلّيه ومعلولية بين الأشياء الخارجية أو الذهنية .
أمّا معرفة اللغة وقواعدها وأمثال ذلك ، فليست هي بعلم ؛ إذ لا تجعلنا ندرك رابطة واقعية بين الأشياء ، فما هي إلاّ سلسة أمورٍ
الصفحة 48
وضعيّة تعاقدية اعتبارية لا تتجاوز الفرض والاتفاق ، تشكّل معرفتها مفتاحاً للعلم لا نفس العلم .
نعم ، ربّما تحدث على صعيد هذه الأمور الوضعية ظواهر واقعية ، من قبيل تطوّر اللغات وتركيباتها التي تعبّر عن تكامل الأفكار وتحدث طبق قانون طبيعي . وبالتالي تكون معرفة مثل هذه القوانين الطبيعية من الفلسفة والعلم . إذن فقيمة القراءة والكتابة تكمن في أن يمتلك الإنسان بيده مفاتيح علوم الآخرين .
ولكن هل ينحصر طريق المعرفة وكسب العلم بهذا السبيل ؟ أيّ سبيل امتلاك الإنسان لهذا المفتاح الذي له فتح مغاليق علوم الآخرين والاستفادة من كنوزها . وهل على النبيّ أيضا أن يستفيد من علوم أفراد الإنسان ؟ ولو كان الأمر كذلك ، فأين نضع النبوغ والابتكار ؟ وأين الإشراق والإلهام ؟ وأين التعلّم المباشر من الطبيعة ؟
إنّ الحقيقة تقول : إنّ التعلّم عبر الكتابة والقراءة هو من أردأ أساليب التعلّم ؛ لأنّ كتابات البشر تختلط فيها الحقائق بالأوهام ، بالإضافة إلى أن المتعلّم عبرهما ( أي : القراءة الكتابة ) يمتلك حالة تلقٍ كامل دون أن يتدخّل ويتفاعل مع عملية التعلّم .
ممّا ينقل عن ديكارت الفيلسوف الفرنسي المعروف أنّه نشر سلسلة مقالات هامّة أدّت إلى أن يذيع صيته في الآفاق ويعجب الجميع بأحاديثه المجدِّدة . وكان أحد المعجبين بمقالاته قد ظنّ ـ كما ظن الدكتور سيد عبد اللطيف ـ أنّ ديكارت يجلس على كنز من النسخ والكتب العلمية فيستقي معلوماته منه ، فذهب إلى لقائه
الصفحة 49
وطلب منه أن يريه مكتبته ، فذهب به ديكارت إلى مكان كان قد شرّح فيه جثّة عجل وأراه ذلك العجل ، وبادره قائلاً : ( هذه مكتبتي لقد استقيت معلوماتي منها ) !
وقد كان المرحوم السيد جمال الدين الأسدآبادي يقول :
( أنّي لأعجب من بعض الأشخاص الذي يقضون عمرهم وهم يقرأون كتب وكتابات أناس مثلهم على ضوء مصباح ، ألم يخطر في بالهم يوماً أن يطالعوا المصباح نفسه ؟ فهم لو تأمّلوا المصباح في إحدى الليالي وأغلقوا الكتاب فسوف يحصلون على معلومات أوفر وأوسع .
نعم ، ليس هناك من أحدٍ دخل الحياة الدنيا عالماً ، وكلّ الناس أوّل الأمر جهّال ثمّ يتعلّمون شيئاً فشيئاً . وكلّ شخص ـ ما عدا الله تعالى ـ جاهل في ذاته ثمّ يصبح عالماً بمقتضى القوى والأسباب الأخرى . وكلّ إنسان يحتاج إلى معلّم أي إلى قوّة تلهمه . يقول تعالى :
( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى ) .
لكنّ الكلام كلّه في المعلّم ومَن يجب أن يكون ؟ وهل يجب أن يستقي الإنسان معلوماته من إنسان آخر ؟ وحينئذٍ فلا مناص من أن يمتلك بيده مفتاح علوم الآخرين ، أي : القراءة والكتابة . أليس في مقدور الإنسان أن يبتكر ؟! أليس بقادر على مطالعة كتاب الخِلقة والطبيعة في عزلة
الصفحة 50
عن الآخرين ؟! ألاَ يمتلك سبيل الاتصال بالغيب والملكوت فيكون الله تعالى معلّمه وهاديه مباشرة ؟! إنّ القرآن الكريم يقول عن النبيّ (ص) في سورة ( النجم ) : ( وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ) . ويقوم الإمام علي (ع) فيه (ص) :
( ولقد قَرَنَ الله به منذ كان فطيماً أعظم مَلَك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ) ) (1) .
وللمثنوي الشاعر الفارسي الكبير أبيات حول الموضوع .
وابن خلدون في مقدّمته المعروفة ـ ( فصل : في أنّ الخطّ والكتابة من عداد الصنائع الإنسانية ) ـ يبحث حول كون الخطّ كمالاً من جهة أنّ الحياة الإنسانية الاجتماعية تجعل البعض محتاجاً لمعلومات البعض الآخر ، وبعد أن يتحدّث عن السير التكاملي للخطّ في الحضارات وعن وجود الخطّ في الحجاز ، يقول :
( فكان الخطّ العربي لأوّل الإسلام غير بالغ إلى الغاية من الإحكام والإتقان والإجادة ولا إلى التوسّط ؛ لِما كان العرب من البداوة والتوحّش وبعدهم عن الصنائع ، وأنظر ما وقع لأجل ذلك في رسمهم المصحف ، حيث رسمه الصحابة بخطوطهم
ـــــــــــــــ
(1) نهج البلاغة ، الخطبة 190 .
الصفحة 51
وكانت غير مستحكمة في الإجادة فخالف الكثير من رسومهم ما اقتضته رسوم صناعة الخطّ عند أهلها ، ثمّ اقتفى التابعون من السلف رسمهم فيها تبرّكاً بما رسمه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ... ) (1) .