إنّه من خلال حكم التأريخ القطعي وبشهادة القرآن وبحكم القرائن التأريخية الكثيرة ، نعلم أنّ لوح ضمير النبيّ كان مبرّأً من التعلّم من بشر . إنّه لم يتعلّم إلاّ في ظلّ التعليم الإلهي . ولم يستقِ إلاّ من الحقّ ـ تعالى ـ إنّه زهرة لم تَرْعَها إلاّ يد الواجب جلّ وعلا . وأنّه رغم عدم تعامله مع القلم والقرطاس والحبر ، والقراءة والكتابة ، رغم ذلك يُقسم كتابه المقدّس بالقلم وآثاره كأمرٍ مقدّس : ( ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ) . ويُؤمر بالقراءة في أوّل رسالة إلهية إليه ، وعبّر عن صناعة استعمال القلم بأنّها أعظم نعمة تأتي بعد نعمة الخلق : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ) .
وهكذا رأينا ذلك الإنسان الذي لم يمسك بقلم قطّ ، رأيناه عند دخوله المدينة يبعث نهضة القلم ، رأينا ذلك الإنسان الذي لم يرَ معلماً قطّ ولم يدخل جامعة أبداً ، يعلّم الإنسانية وينشئ الجامعات والجامعات عبر التأريخ .
الإمام الرضا (ع) في حواره مع أهل الأديان يقول لرأس الجالوت : ( وكذلك أمر محمّد (ص) ، وما جاء به كلّ رسول
الصفحة 62
بعثه الله ، ومن آياته أنّه كان يتيماً فقيراً راعياً أجيراً لم يتعلّم كتاباً ولم يختلف إلى معلم ، ثمّ جاء بالقرآن الذي فيه قصص الأنبياء (ع) وأخبارهم حرفا حرفاً ، وأخبار من مضى ومن بقى إلى يوم القيامة ... ) (1) .
إنّ الظاهرة التي أثارت إعجاب الجميع وكشفت أكثر من غيرها عن عظمة القرآن الكريم ، وكونه كتاباً سماوياً حقّاً ، هي أنّ هذا الكتاب العظيم بكلّ معارفه في مجالات المبدأ الأوّل والمعاد وتصوّراته عن الإنسان والأخلاق والقانون والقصص والعبر والمواعظ ، وبكلّ جماله وفصاحته ، هذا الكتاب جرى على لسان رجلٍ أُمّي لم يدخل أيّ جامعة ولم يقابل أيّ عالم من علماء العالم ، ولم يقرأ حتى كتاباً بسيطاً من كتب عصره .
إنّ الآية والمعجزة التي أجراها الله تعالى على يد آخر أنبيائه ، هي معجزة كتابية بلاغية حديثية ، ترتبط بالفكر والإحساس والضمير ، وقد أثبتت هذه المعجزة وهذا الكتاب قدرته المعنوية الخارقة عبر العصور ، فلا يبليه الزمان ، لقد جذب الملايين من القلوب ، ويجذب كلّ حين ؛ بعد أن كان يموج بالطاقة الحيوية المحرّكة ، فما أكثر العقول التي بعثها على التفكير ؟! وما أكثر القلوب التي أفاضها بالذوق والشوق المعنويين ؟! وكم غذّى طيور السحر وأحياءه بالغذاء المعنوي ؟! وما أكثر الدموع
ـــــــــــــ
(1) عيون أخبار الرضا ، ص136 .
الصفحة 63
التي أجراها على الخدود حبّاً وخوفاً لله تعالى في أعماق السحر وأواسط الليل ؟! وكم أطلق من أُمَمٍ من عِقال الاستعمار والاستبداد والظلم ؟!
نعم ، إنّ العناية الإلهية التي شاءت أن تثبت إعجاز القرآن أكثر فأكثر أنزلت هذا القرآن على عبدٍ يتيم راعٍ يجوب الصحراء ، أُمّيٍّ لم يدخل مكتب تعليم أبداً .
( ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) .