الصفحة 55
يدّعي الدكتور السيد عبد اللطيف : أنّه يمكن استفادة مدّعاه من الأحاديث والتواريخ . ويذكر في هذا الصدد حادثتين :
الأولى :
أنّ البخاري يذكر في ضمن الأخبار المذكورة في كتاب العلم : أنّ رسول الله (ص) أعطى مرّة رسالة سرّية لصهره عليّ ، وأوصاه بالخصوص : أن لا يفتحها ! وأنّ كان عليه أن يحفظ اسم من أرسلت له فيوصلها إليه . وإذا كان النبيّ (ص) يعطي علياً رسالة بهذا القدر من السرّية بحيث لا يعلم بمضمونها حتى عليّ صهره وموضع ثقته ، فمن يستطيع أن يكون كتبها غير شخص النبيّ (ص) ؟! هذه هي الحادثة الأولى .
وممّا يؤسف له : أن توجد رسالة في صحيح بخاري من هذا القبيل ، ولكنّها لا تذكر أنّ حامل الرسالة هو عليّ (ع) ، وبهذا ينهار استدلال الدكتور ؛ لأنّه يرتكز على شخصية عليّ ، وأنّ إخفاء الرسالة عنه لا يعني إلاّ أن يكون الكاتب هو النبيّ (ص) .
الصفحة 56
يقول البخاري :
( وأحتج بعض أهالي الحجاز في المناولة بحديث النبيّ (ص) ، حيث كتب لأمير السرّية كتاباً ، وقال : لا تقرأه حتى تبلغ مكان كذا وكذا ، فلما بلغ ذلك المكان قرأه على الناس وأخبرهم بأمر النبيّ (ص) ) (1)
ولكنه لا يقول أنّ أميرهم هو علي ، ومن مضمون الرواية يعلم أنّ من كان سيفتحها هو حاملها لا شخص ثالث ، كما ظنّ السيد عبد اللطيف .
والذي ذكره البخاري يرتبط بقصّة ( بطن النخلة ) التي ذكرتها كتب السِير والتأريخ . فقد ذكر ابن هشام (2) تحت عنوان ( سرّية عبد الله بن جحش ) : أنّ حامل الرسالة هو عبد الله بن جحش ، إذ أمره (ص) أن يفتحها بعد مسير يومين ، ثمّ يعمل بمضمونها ، وقد نُقل هذا في بحار الأنوار (3) أيضاً .
ويصرح الواقدي في مغازيه : بأنّ كاتب الرسالة هو أُبي بن كعب لا الرسول (ص) ، فيقول : ( قالوا : قال عبد الله بن جحش : دعاني رسول الله ( صلّى
ــــــــــــــــــــ
(1) صحيح البخاري ، باب العلم ، ج1 ، ص 25 .
(2) سيرة ابن هشام ، ج1 ، ص601 .
(3) بحار الأنوار ، ج16 ، الباب 38 ، من الطبعة القديمة ، ص 575 .
الصفحة 57
الله عليه وآله وسلّم ، حين صلّى العشاء ، فقال : وافِ مع الصبح معك سلاحك ؛ أبعثك وِجهاً . قال : فوافيت الصبح وعليّ سيفي وقوسي وجعبتي ، ومعي درقتي ، فصلّى النبيّ (ص) بالنّاس الصبح ثمّ انصرف ، فيجدني قد سبقته واقفاً عند بابه ، وأجد نفراً معي من قريش ، فدعا رسول الله صلّى عليه وآله وسلّم أُبي بن كعب فدخل عليه ، فأمره رسول الله صلّى عليه وآله وسلّم ، وكتب كتاباً ، ثمّ دعاني وأعطاني صحيفة من أديم خولاني ، فقال : قد استعملتك على هؤلاء النفر ، فأمض حتى إذا سرت ليلتين فأنشر كتابي ، ثمّ أمض لما فيه . قلت : يا رسول الله أيّ ناحية ؟ فقال : اسلك النجدية ، تؤم ركية ، قال : فانطلق حتى إذا كان ببئر ابن ضميرة ، نشر الكتاب وقرأه فإذا فيه : سر حتى تأتي (بطن نخلة) على اسم الله وبركاته ، ولا تكرهنّ أحداً من أصحابك على المسير معك ، وامض لأمري فيمن تبعك ، حتى تأتي (بطن نخلة) فترصد بها عير قريش، فلمّا قرأ عليهم الكتاب ، قال : لست مستكرهاً منكم أحداً ، فمن كان يريد منكم الشهادة ، فليمض لأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، و من أراد الرجعة ، فمن الآن ، فقالوا أجمعون : نحن سامعون ومطيعون لله ولرسولك ولك ) (1)
والحادثة الثانية : التي يستند إليها هي حادثة الحديبية ،
ــــــــــــــــ
(1) مغازي الواقدي ، ج1 ، ص 13 ـ 14 .
الصفحة 58
فيقول : ( وكما ينقل البخاري وابن هشام : فإنّ النبيّ أمسك ورقة العهد وكتب بيده ) .
وجوابه :
أوّلاً : أنّ البخاري ذكر هذا في إحدى الروايات ، ولكنّه ذكر في رواية أخرى ما يخالفه . وقد أجمع علماء السنّة تقريباً على أنّه وإن كان ظاهر عبارة البخاري يوهم أنّ الرسول الأكرم (ص) هو الكاتب ، ولكن مقصود الراوي لم يكن ذلك .
وهكذا نجد صاحب السيرة الحلبية بعد أن يذكر ـ وفق العادة ـ الحادثة ويؤكّد أنّ النبيّ الأكرم (ص) استعان بعليّ لمحو الكلمة ، ينقل رواية البخاري ويؤكّد أنّ البعض ادعى أنّ هذا من إعجاز النبيّ . ولكنّه يعقب على هذا القول : بأنّ البعض قالوا : بعدم اعتبار هذه الرواية بهذا النحو عند أهل العلم . وأنّ المقصود هو : أنّ النبيّ أمر بالكتابة لا أنّه كتب بنفسه .
أمّا سيرة ابن هشام فليس فيها ذلك ، ونحن لا ندري لماذا نسب الدكتور إليها ذلك ؟ (1)
وقد ألمعنا سابقاً إلى أنّ المستفاد من أكثر النقول التأريخية هو أنّ كلّ ما كُتب كان بيد عليّ (ع) ، نعم يستفاد من عبارة الطبري وابن الأثير : أنّ النبيّ رغم أنّه لم يكن يكتب ، رفع العهد وكتب الكلمة بيده .
ـــــــــــــــ
(1) السيرة الحلبية ، ج3 ، ص غ 2 .
الصفحة 59
وعلى أيٍّ ، فإنّ أقصى ما يثبته هذا الاستدلال هو أنّ النبيّ (ص) كتب مرّة أو مرّتين في عصر رسالته ، في حين أن مصب بحثنا هو عصر ما قبل الرسالة .
* * *
في مطلع هذا الحديث قلنا : إنّ أعداء النبيّ والإسلام آنذاك اتّهموه بالأخذ من أفواه الآخرين ، ولكنّهم لم يتّهموه قطّ بأنّه كان يعرف القراءة والكتابة ، فكان يستقي من كتب مذخورة لديه .
ولكي يمكن أن ينبري أحد فيقول : إنّهم اتّهموه بذلك أيضاً كما يعكس ذلك القرآن نفسه حين يقول : ( وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) .
ولكنّ الجواب ـ بالإضافة إلى أنّ اتّهاماتهم كانت تنطلق من تعصّب وشعور بالحقارة وهو ما يسمّيه القرآن بالظلم والزور ـ : هو أنّ الآية ليست صريحة في ادّعاء أنّ النبيّ كان يكتب بنفسه ، إذ أنّ كلمة الاكتتاب تأتي بمعنى الكتابة ، وبمعنى طلب الكتابة ، أي : الطلب إلى شخص آخر أن يكتب له .
وإنّ ذيل الآية قرينة على أنّ المقصود هو المعنى الثاني .
الصفحة 60
فمضمون الآية هو أنّهم قالوا : إنّها أساطير الأوّلين كتبها ( أو كتبها الآخرون له ) ، وهي تُقرأ عليه في كلّ صباح وأصيل . وقد ذُكر الاكتتاب بصيغة الماضي ، والإملاء بصيغة المضارع المستمر ، ممّا يعني أنّ تلك الأمور التي اكتتبها سابقاً يتلوها عليه الآخرون العارفون بالقراءة صباحاً ومساءً ، فيتعلّم منها ويحفظ .
وإذا افترضنا أنّ النبيّ (ص) كان يعرف القراءة فما الداعي لقولهم : بأنّ الآخرين كانوا يتلونها عليه في كلّ صباح ومساء فيتعلّم منهم ويحفظ ؟! بل كان يمكن أن يكتفوا بالقول : إنّه يراجع ويحفظ .
إذن ، فحتى الكافرون والذين اتّهموا النبيّ (ص) بشتى التهم ، فلم يكونوا يتورّعون عن أيٍّ منها فوصفوه بالجنون والسحر ، والسماع الشفهي من أفواه الآخرين ـ حتى هؤلاء لم يكونوا يستطيعون اتّهامه بأنّه يعرف القراءة والكتابة ، فيقرأ عليهم محتويات الكتب الأخرى وينسبها إلى نفسه .
الصفحة 61