والمقطع القرآني الآخر الذي يستند إليه الدكتور المذكور هو الآيتان 3 ، 4 من سورة ( البيّنة ) حيث يقول :
( ومن أشدّ ما يدعو للعجب أن لا يلتفت المترجمون والمفسّرون لهذه الآية التي تصف النبيّ (ص) بأنّه : ( رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً ) ، ويلاحظ هنا أنّه تعالى لم يقل في هذه الآيات : إنّ الرسول يقرأ الصحف المقدّسة عن ظهر قلب ، بل صرّح بأنّه يقرأ هذه الصحف وهي منشورة أمامه ) .
ولمعرفة جواب عن هذا الاستدلال ينبغي معرفة مدلول كلمتي ( يتلو ) و ( صُحُفاً ) .
أمّا الصحيفة فهي بمعنى ( الورقة ) ، والصحف جمع الصحيفة ، فمعنى الآية ـ بالإضافة للجملة التي تليها وهي : ( فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ) ـ هو أنّ النبيّ (ص) يقرا للناس أوراقاً طاهرة منزّهة ، فيها كتابات قيّمة . والمقصود بهذه الصحف تلك الأشياء التي
ـــــــــــــــ
(1) مقدّمة ابن خلدون ، ص 332 ، طبع دار الفكر .
الصفحة 52
كان القرآن الكريم يُكتب عليها ، فهي تعني إذن : أنّ النبيّ يقرأ القرآن للنّاس .
أمّا كلمة : ( يتلو ) فهي من مادّة ( التلاوة ) ، ولم نعثر على أيّ مستند يفسّر التلاوة بالقراءة من على ورقة ، وإنّما الذي يستفاد من كلمات اللغويين ومراجعة موارد استعمال كلمتي ( القراءة ) و ( التلاوة ) هو أنّه ليس كلّ تكلّم يسمّى قراءة أو تلاوة وإنّما التكلّم بأحدهما إذا كان عن متنٍ ، سواء كان ذلك المتن يقرأ من على ورقة أو عن ظهر قلب . فقراءة القرآن هي قراءة وتلاوة ، سواء كانت بالنظر إلى القرآن المطبوع أو عن حفظ ، مع وجود تفاوت بين هاتين الكَلِمَتين ؛ فالتلاوة تختص بقراءة متنٍ مقدّس ، ولكنّ القراءة أعمّ منها ، فيصحّ أن تقول : قرأت كتاب المنطق . ولا يصحّ أن تقول : تلوته .
وعلى أيّ حالٍ ، فإنّ عنصر القراءة من على متنٍ مكتوب ليس دخيلاً في مفهوم القراءة ولا مفهوم التلاوة . وعلى هذا فإنّ الآية السابقة لا تقول أكثر من : أنّ النبيّ (ص) كان يتلو القرآن المكتوب على صفحات للناس . والواقع أنّ لنا أن نتساءل : لماذا يجب أن نفترض النبيّ محتاجاً في تلاوة آيات القرآن للنظر إلى مخطوطةٍ أمامه ؟! إنّنا نعلم أنّ النبيّ (ص) كان يحفظ القرآن ـ مثلما كان يحفظه المئات من المسلمين ـ ولقد ضمن القرآن له ذلك في قوله تعالى : ( سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى ) .
الصفحة 53
إلى هنا عرفنا أنّه لا يستفاد من أيٍّ من آيات القرآن ـ وبأيِّ وجهٍ ـ : أنّ رسول الله (ص) كان يقرأ ويكتب ، بل يستفاد منها عكس ذلك . وحتى لو فرضنا أنّها تفيد أنّه (ص) كان يقرأ ويكتب ، فإنّ ذلك يبقي مرتبطاً بعصر الرسالة ، في حين أنّ الدكتور المذكور يدّعي أنّ رسول الله (ص) كان يحسنهما قبل رسالته أيضاً .