ومؤيّدو هذا التفسير ينسبون ( أُمّي ) إلى ( أُمّ القُرى ) وهي مكّة ، فقد جاء في سورة الأنعام الآية (92) قوله تعالى :( وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ) . وقد ذكرت الكتب القديمة هذا الاحتمال وأيّدته بعض أحادث الشيعة ، وإن لم تكن معتبرة . كما يقال : أنّ للكلمة جذراً إسرائيلياً . وقد ورد هذا الاحتمال بأدلّة :
الأوّل : أنّ كلمة ( أُمّ القرى ) ليست عِلماً خاصاً بمكّة وإن شملت مكّة باعتبارها مركزاً لقرى حولها ، إذ أنّ أمّ القرى يعني مركز القرى ، فكلّ نقطة تشكّل محوراً لنواحي مختلفة يقال لها : أمّ القرى . ويفهم من استعمال آخر لها في القرآن الكريم أنّها مجرّد عنوان وصفي لا عَلَمِي ، فقد جاء في سورة القصص ( الآية 59) قولة تعالى :
( وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً ) . فيعلم منه أنّ كلّ مركز ومجمع يسمّى بـ ( أُمّ القرى ) في لغة القرآن . وحينئذٍ فلا معنى للنسبة لعنوان وصفي .
الثاني : أنّ الكلمة أطلقت في القرآن على أناسٍ لم يكونوا مكّيّين كما في سورة آل عمران ( الآية : 20 ) ، إذ يقول تعالى : ( وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ ) .
ومنه يعلم أنّ الكلمة في عرف ذلك اليوم وعصر القرآن كانت تطلق على العرب غير التابعين لكتاب سماوي .
الصفحة 36
وعلاوة على ما سبق ؛ فإنّ هذه الكلمة أطلقت على عوام اليهود الذين لم يكونوا يعرفون شيئاً رغم أنّهم يعدّون من أهل الكتاب كما جاء في سورة البقرة الآية (78) : ( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ ) . ومن الواضح أنّ اليهود الذين أسماهم القرآن بـ ( الأميين ) لم يكونوا من أهل مكّة ، بل كان غالبهم يسكن المدينة وأطرافها .
الثالث : أنّ القواعد الأدبية كانت تقتضي أن يقال : ( قروي ) . لا : ( أُمّي ) ؛ لو كانت الكلمة مشتقّة من (أُمّ القرى) حسب قاعدة النسبة في علم الصرف ، وهي تقرّر أنّه عند النسبة للمضاف والمضاف إليه ، وخصوصاً عندما يكون المضاف هو الأب أو الأم أو البنت ، هذه النسبة تكون للمضاف إليه لا للمضاف ، فنقول في النسبة إلى ( أبي طالب ) : طالبي . و( أبي حنيفة ) : حنفي . و ( بني تميم ) : تميمي .
التفسير الثالث : المشركون العرب الذين لم يكونوا يتبعون كتاباً سماوياً . وقد وجدت هذه النظرية قديماً لدى المفسّرين ، إذ جاء في مجمع البيان في ذيل الآية (20) من (سورة آل عمران) التي تجعل الأمّيين في قِبال أهل الكتاب ، وهي قوله تعالى : ( وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ ) ، جاء فيه نسبة هذا الرأي للصحابي الكبير المفسّر عبد الله بن عبّاس . كما نسب هذا الرأي إلى أبي عبيدة في ذيل الآية (78) من سورة البقرة . وقد اختار المرحوم الطبرسي صاحب مجمع البيان هذا الرأي
الصفحة 37
كما نراه في ذيل الآية (75) من آل عمران ، وكذا نجد عند الزمخشري في كشّافة عند الحديث عن هذه الآية والآية (75) من سورة آل عمران ، كما أنّ الرازي ينقل هذا الاحتمال في ذيل الآية (78) البقرة ، والآية (120) آل عمران من تفسيره الكبير .
والواقع أنّ هذا المعنى لا يشكّل معنى مستقلاً ثالثاً ، بمعنى أنّه لا يسمّى كلّ أناس لا يتبعون كتاباً سماوياً بـ ( الأُمّيين ) حتى ولو كانوا عارفين عالمين . وإنّما أطلقت على المشركين العرب لجهلهم ، فمناط الاستعمال فيهم هو جهلهم بالقراءة والكتابة ، لا عدم اتباعهم لكتاب من الكتب السماوية .
ولهذا نجد أنّ هذه الكلمة عندما تأتي بصيغة الجمع وتطلق على مشركي العرب يأتي فيها هذا الاحتمال ، أمّا عندما تستعمل بنحو المفرد وتطلق على النبيّ (ص) مثلاً فإنّه لا يحتمل أيّ مفسّر أنّ المقصود هو بيان عدم اتباعه لأحد الكتب السماوية . وإنّما ترددوا بين احتمالين :
ـ عدم اطلاعه (ص) على الخط .
ـ وكونه من أهل مكّة .
ولمّا بطل الاحتمال الأخير ، فإنّ إطلاق لفظ الأُمّي عليه ليس إلاّ لعدم تعلّمه ومعرفته بالخطّ والكتابة .
هذا ويوجد هنا احتمال رابع في مفهوم هذه الكلمة ، وهو أنّها تستعمل لتبين عدم الاطلاع على متون الكتاب المقدّس وهو الاحتمال الذي اخترعه الدكتور سيد عبد اللطيف من عنده ، وخلط بينه وبين المعنى الثالث الذي ذكرناه ، وقلنا أنّه كان معروفاً
الصفحة 38
لدى قدماء المفسّرين ، فهو يقول : ( جاءت كلمة ( أُمّي ) و ( أُمّيّون ) في مواضع مختلفة من القرآن , ولكنّها كانت تفسّر دائماً وفي أيّ موضع بتفسير واحد . فكلمة ( أُمّي ) في اللغة أصلاً بمعنى الطفل الوليد ، وإشارة لهذه الحالة الحياتية عبر بهذه الكلمة ـ بمعناها الضمني ـ عن الشخص الذي لا يعرف القراءة والكتابة .
وكلمة ( أُمّي ) كذلك تأتي بمعنى من كان يعيش في أُمّ القرى أيّ أُمّ المدن أو المدينة الرئيسية المركزية . وهي صفة أطلقها أعراب زمن النبيّ على مكّة ، فمن هو من أهل مكّة يدعي بـ ( الأُمّي ) .
والمورد الآخر لاستعمال كلمة ( أُمّي ) هو الشخص الذي لم يتعرّف على المتون السامية القديمة ، وليس من أتباع الديانة اليهودية أو المسيحية ، وهم من أُسموا في القرآن باسم ( أهل الكتاب ) ، وقد أُطلقت كلمة ( الأُمّيين ) في القرآن على العرب قبل الإسلام باعتبار أنّهم لم يتعرّفوا على كتاب مقدّس ، ولم يكونوا في زمرة اتباع التوراة والإنجيل ، فكانوا في قِبال ( أهل الكتاب ) .
وإذ كانت لكلمة ( أُمّي ) معانٍ مختلفة ، فإننا نجهل السر الذي دفع المفسّرين والمترجمين للقرآن ـ مسلمين أو غير مسلمين ـ للتمسّك بالمعنى الابتدائي ، أيّ الطفل الوليد الذي لا يعلم شيئاً ، والتعبير بذلك عن الذي لا يعرف القراءة والكتابة ، وبالتالي عبّروا عن أهل مكّة قبل الإسلام بـ (الأُمّيين )
الصفحة 39
أو المجموعة الجاهلة ؟! (1)
نقد هذا الكلام :
أوّلاً : رأينا ـ أنّ المفسّرين الأوائل فسّروا كلمة ( أُمّي ) و ( أُمّيون ) بثلاثة تفسيرات ، أو قالوا فيها بثلاثة احتمالات ، ولم يتمسّكوا ـ خلافاً لمدعاة ـ بمعنى واحد .
ثانياً : لم يقل أحدّ أنّ كلمة ( أُمّي ) هي بمعنى الطفل الوليد الذي لا يعلم شيئاً ، ليكون معناه الضمني هو الذي لا يستطيع القراءة والكتابة .
والواقع أنّ هذه الكلمة لا تطلق أساساً على الوليد وإنّما على الكبار الذين بقوا على الحالة التي ولدتهم أمّهم فيها من هذا الجانب ، فإطلاقها على الشخص هو من باب العدم والملكة كما يصطلح عليه علماء المنطق ، فلا يسمّى ( أُمّياً ) إلاّ من كان من شأنه التعلّم ولم يتعلّم ، ولذا نجد المناطقة المسلمين يأتون بها في أمثلة ( الملكة وعدمها ) في كتب المنطق .
ثالثاً : إنّ قوله : ( والمورد الآخر لاستعمال كلمة ( أُمّي ) هو الشخص الذي لم يتعرّف على المتون السامية القديمة ...) غير صحيح ؛ إذ الذي يستفاد من أقوال العلماء المفسّرين واللغويين هو أنّ هذه الكلمة عند ( الجمع ) كانت تطلق على المشركين العرب في قبال أهل الكتاب ؛ لأنّهم كانوا غالباً يجهلون
ـــــــــــــــ
(1) نشرة ( كانن سرد فتران ) سنة 1964م .
الصفحة 40
القراءة والكتابة ، والظاهر أنّه كان عنواناً تحقيرياً أعطي لهم من قبل اليهود والنصارى . ولا يمكن أن نفهم أنّ أناساً يوسمون بـ ( الأُمّيين ) لأنّهم يجهلون لغة كتاب خاص ، رغم أنّهم يقرأون ويكتبون بلغتهم الخاصة مثلاً ...
إنّ جذر هذه الكلمة ومصدرها على أيّ حال ـ بناء هذا التفسير ـ هو كلمة ( أُمّ ) أو ( أُمّة ) وهما تعطيان معنى البقاء على الحالة الأولى التي كان عليها حين الولادة .
أمّا سبب عدم إرجاع هذه الكلمة إلى ( أُمّ القرى ) مع أنّهم يذكرون هذا كاحتمال ؛ فإنّما هو للإشكاليات العديدة التي بيّناها .
وبعد هذا ، فلا مجال لتعجّب هذا العالم الهندي .
وممّا يؤيد هذا المعنى ما نجده لها من استعمالات في الروايات وكتب المؤرّخين ، بل لم تستعمل فيها إلاّ بهذا المعنى ، أي ( غير المتعلّم ) . ففي بحار الأنوار (ج16 ، ص 119 ) جاءت رواية عن النبيّ (ص) يقول فيها :
( نحن أُمّة أُمّية لا نقرأ ولا نكتب ) .
ويكتب أبن خَلَّكَان في (ج4) من تأريخه ، في ذيل أحوال محمّد بن عبد الملك المعروف بابن الزيّات وزير المعتصم والمتوكّل :
( وكان في أوّل مرة من جملة الكتّاب ، وكان أحمد بن عمّار بن شاذي البصري وزير المعتصم ، فورد على المعتصم كتاب من بعض العمّال ، فقرأه الوزير عليه ، وكان في ذلك الكتاب ذكر
الصفحة 41
( الكلأ ) فقال له المعتصم : ما الكلأ ؟ فقال : لا أعلم ! وكان قليل المعرفة بالأدب ، فقال المعتصم خليفة أُمّي ووزير عامّي ، وكان المعتصم ضعيف الكتابة ؛ ثمّ قال أبصروا من بالباب ، فوجدوا محمّد بن الزيّات المذكور ، فأدخلوه إليه ، فقال : ما الكلأ ؟ فقال : الكلأ ؛ العشب على الإطلاق ، فإن كان رطباً فهو الخَلأ ، فإذا يبس فهو الحشيش ، وشرع في تقسيم أنواع النبات ... فعلم المعتصم فضله ، فاستوزره وحكّمه وبسط يده ) . (1)
ـــــــــــــــ
(1) وفاة الأعيان ، ط1310 .