Rss Feed

  1. هناك حوادث وقعت في حياته (ص) ، وهي توضح أنّه لم يكن يكتب أو يقرأ حتى في المدينة المنورة ، ومنها حادثة الحديبية المشهورة التي امتلكت أهمّيتها وشهرتها من نتاجها التأريخية .
    ورغم أنّ النقول التأريخية والحديثة مختلفة مع بعضها فإنّها تساعد إلى حدّ كبير على توضيح الأمر . ففي شهر ذي القعدة من السنة السادسة الهجرية غادر النبيّ المدينة قاصداً مكّة للعَمرة والحجّ ، وأمر باصطحاب إبل الأضاحي . ولكن ما أن وصل إلى الحديبية ( وهي تبعد ما يقارب فرسخين عن مكّة ) ، حتى وجد قريشاً وقد شكلّت حاجزاً قوياً من دخول المسلمين مكّة ، رغم أنّ الشهر من الأشهر الحرم ، ولم يكن حسب أعراف الجاهلية لقريش الحقّ في منعه ، خصوصاً وأنّ النبيّ (ص) كان قد أوضح أنّه لم يكن يقصد سوى زيارة الكعبة والرجوع بعد أداء المناسك ، إلاّ أنّ قريشاً منعته ولم توافق على ذلك ، في حين أصرّ المسلمون على دخول مكّة ولو بالقوّة ، ولكنّه (ص) لم يرضَ بذلك ولم يوافق على أن تهتك حرمة الكعبة .
     فتمّ الصلح بين قريش والمسلمين حول الموضوع  ، وكان نصّ الصلح بإملاء منه (ص) وكتابة من عليّ (ع) . فقد طلب من على أن يكتب : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ، فاعترض سهيل بن عمرو مندوب قريش : بأنّ هذا هو شعار المسلمين وهم أي المشركون لا يعرفونه ، فليكتب إذن : باسمك اللّهم .
    فوافق الرسول

    الصفحة 23

     الأكرم وأمر علياً أن يكتبها كما قال عمرو ، ثمّ قال رسول الله : أكتب هذا ما صالح عليه محمّد رسول الله سهيل بن عمرو ، فقال سهيل : لو شهدت أنّك رسول الله لم أقاتلك ، ولكن أكتب اسمك واسم أبيك ، فقال رسول الله (ص) ، أكتب : هذا ما صالح عليه محمّد بن عبد الله سهيل بن عمرو ... 
    وهنا وقع الخلاف وبعض الاعتراض واختلف النقول التأريخية في نقل ما جرى ، وما يظهر من سيرة ابن هشام وصحيح البخاري ( باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب ) : أنّ اعتراض قريش كان قبل كتابة كلمة ( رسول الله ) فوافق الرسول على كتابة ( محمّد بن عبد الله ) بدل ( محمّد رسول الله ) ، ولكنّ أكثر النقول تصرّ على أنّ الاعتراض وقع بعد كتابة كلمة ( محمّد رسول الله ) فطلب رسول الله (ص) من عليّ أن يمحو كلمة ( رسول الله ) فاعتذر علي (ع) أن يمحو بيده تلك الكلمة المباركة ، وهنا أيضاً تختلف النقول ، فروايات الشيعة متّفقة على أنّ النبيّ (ص) محا هذه الكلمة بيده بعد امتناع عليّ من محوها ، ثمّ كتب عليّ ( محمّد بن عبد الله ) وإن كانت بعض الروايات  الشيعية ، وكذلك بعض الروايات السنية ، تصرّح بأنّ النبيّ (ص) طلب من عليّ أن يريه الكلمة وأن يضع يده عليها ليمحوها ، ففعل عليّ ، فمحا رسول الله بيده كلمة ( رسول الله ) وكتب عليّ بدلها ( ابن عبد الله ) ، فالكاتب هو عليّ لا النبيّ (ص) ، بل إنّه طبقاً لهذه النصوص لم يكن النبي ليقرأ أو يكتب مطلقاً .


     الصفحة 24
      
    وينقل كتّاب ( قصص القرآن ) ، لأبي بكر عتيق النيشابوري السعد آبادي ، المأخوذ من تفسيره للقرآن المؤلّف في القرن الخامس وباللغة الفارسية ، ينقل هذه الحادثة حتى يصل إلى المحلّ الذي يعترض فيه مندوب قريش سهيل بن عمرو على كتابة كلمة رسول الله ، فيقول ما ترجمته :
    قال سهيل بن عمرو أكتب هكذا : هذا ما صالح عليه محمّد بن عبد الله سهيل بن عمرو ، فأمر رسول الله (ص) علياً أن يمحو كلمة : ( رسول الله ) ، وتكرّر الطلب والامتناع ، فقال رسول الله (ص) : ضع إصبعي عليها حتى أمحوها . لأنّ رسول الله (ص) كان أُمّياً لا يعرف الكتابة ، فوضع عليّ أصبع رسول الله (ص) على الموضع ، ومحاها رسول الله (ص) ليكتب كما يريد سهيل ) .
    ويقول اليعقوبي في تأريخه (1) :
    وأمر علياً فكتب :   باسمك اللّهم ، من محمّد بن عبد الله ) .
    وصحيح مسلم بعد ذكر امتناع عليّ من المحوّ يؤكّد أنّ النبي قال لعلي : ( فأرني مكانها ) . فأراه مكانها فمحاها ، وكتب : ( ابن عبد الله ).
     والملاحظ في هذه الرواية أنّها تذكر تارّة : أنّ النبي استعان بعليّ (ع) في معرفة محل الكلمة . وتذكر تارّة أخرى : أنّ النبي محاها وكتب . ممّا يظهر منه ابتداءً أنّ النبيّ هو الكاتب ، ولكنّ المسلّم به أنّ ناقل الحديث كان يقصد أنّ علياً هو الذي كتب
    ــــــــــــ
    (1) الجزء الأوّل ، ص 54 .

     الصفحة 25

    بعد أن ذكر استعانة النبيّ به .
    وما يبدو وبصراحة تقريباً من كلّ من تاريخ الطبري والكامل لابن الأثير ، وروايات أخرى للبخاري في باب الشروط ، أنّ الكلمة الأخرى كتبها رسول الله بخطّه ، إذ جاء : ( فأخذه رسول الله ، وكتب ) .
     وجاءت في عبارة الطبري ، وابن الأثير جملة أخرى هي : ( فأخذه رسول الله وليس يحسن أن يكتب ، فكتب ) .
     وهذا يؤيدّ أنّ الكتابة كانت بشكل استثنائي ، وهو ما يمكن أن يؤيّد نظر أولئك القائلين بأنّ النبيّ (ص) كان يمكنه أن يكتب لو كان يريد وذلك بتعليم الله ، ولكنّه لم يكتب تماماً ؛ كموقفه من الشعر ، فلم يكن (ص) ينظم شعراً أو يقرأ حتى شعر غيره ، وحينما يريد ذكر شعر غيره يَحلّ البيت ، فيقدّم الكلمات ويؤخّرها أو يضيف إليها ويحذف ؛ لأنّ الله جعل مقامه فوق مقام الشعر ، فيقول تعالى : ( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ) [ يس : 69 ] .
    وهكذا نلاحظ اختلاف النقول في هذه الحادثة ، ورغم أنّ البعض منها يؤكّد أنّه كتب بيده كلمة : ( ابن عبد الله ) التي كانت بمنزلة توقيعه ، ولكنّها نفسها تعتبرها ظاهرة استثنائية .
    هذا وقد جاءت في أُسد الغابة في ذيل أحوال تميم بن جراشة الثقفي ، قصّة توضح بصراحة أنّ النبي الأكرم (ص) لم يكن يقرأ أو يكتب حتى في عصر البعثة ، فيقول (1) :
     قدمت على النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في وفد ثقيف ، فأسلمنا وسألناه أن يكتب لنا كتاباً فيه شروط ، فقال : اكتبوا ما
    ــــــــــــ
    (1) أُسد الغابة : ص 216 .


     الصفحة 26

     بدا لكم ، ثمّ إيتوني به ، فسألناه في كتابه أن يُحلّ لنا الرِّبا والزنا ، فأبى عليّ (رضي الله عنه) أن يكتب لنا ، فسألناه خالد بن سعيد بن العاص ، فقال له عليّ : تدري ما تكتب ؟! قال اكتب ما قالوا ، ورسول الله (ص) أولى بأمره . فذهبنا بالكتاب إلى رسول الله (ص) فقال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا ... ) الآية ، ثمّ محاها وألقيت علينا السكينة ، فما راجعناه ، فلمّا بلغ الزنا وضع يده عليها وقال : ( وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً ...)