Rss Feed



  1. الصفحة  30

     هل نشأ الاعتقاد بعدم تعلّم النبيّ لهما من تفسير كلمة : ( أُمّي ) ؟

     الواقع أنّ الدكتور المذكور على خطأ في هذا التصوّر ؛ وذلك :
    أوّلاً : لأنّ تاريخ العرب ومكّة حال ظهور الإسلام يشهد على عدم تعلّم النبيّ لهما قطعاً . فقد أوضحنا فيما سبق الوضع الذي كانت عليه الكتابة والقراءة في البيئة الحجازية آنذاك ؛ حيث كانتا محدودتين لا تشملان إلاّ بعض الأفراد الذين حفظ التاريخ أسماءهم لندرتهم ومعروفيتهم في حين لم يذكر النبيّ فيهم . وعليه فإنّ المسلمين كانوا سيقولون بأمّية محمّد النبيّ (ص) حتى لو لم يخبرهم القرآن بذلك .
    وثانياً : فلأنّه توجد في القرآن آية أخرى لا تقلّ صراحة عن الآيتين السالفتين ( المذكورة فيهما كلمة : أُمّي ) بحيث أنّ المفسرين الذين اختلفوا في مفهوم كلمة : ( أُمّي ) لم يختلفوا في أنّ هذه الآية تدلّ على عدم تعلّم النبيّ للقراءة والكتابة وهي :
    ( وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ) [ العنكبوت : 48 ] .
    فهي صريحة في أنّ الرسول (ص) لم يكن قبل عصر الرسالة يقرأ أو يكتب ، وهذا ما فهمه عموم المفسّرين المسلمين

    الصفحة 31

     وهنا يقول الدكتور المذكور أنّ المفسّرين اشتبهوا أيضاً في تفسير الآية ، فإنّ الكتاب هنا هو ( الكتب المقدّسة ) كالتوراة والإنجيل ، فيكون مضمون الآية : إنّك قبل نزول القرآن لم تكن تعرف أيّ كتاب مقدّس لأنّ الكتاب المقدّس لم يكن باللغة العربية ، ولو كنت قرأت هذه الكتب لعدّت موضعاً لشكّ المرتابين وتهمتهم .
    ولكن هذا الإدعاء مجانب للواقع ؛ إذ الكتاب في اللغة العربية (1) يعني مطلق ما هو مكتوب ، سواء كان رسالة أو دفتراً مقدّساً سماوياً أو غير سماوي . وقد تكرّر استعمال هذه اللفظة في القرآن الكريم في مختلف الكتابات .
    فتارّة تستعمل في مورد رسالة بين شخصين ، كما جاء في قصّة ملكة سبأ : (  قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) . وأخرى في مورد الوثيقة التي يكتبها طرفان متعاملان ، مثل : ( َيبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ ) . وثالثة في مورد الألواح الغيبية والحقائق الملكوتية التي لها نحو تعبير عن الحوادث  في هذا العالم ، مثل : ( وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) .
    ـــــــــــــــ
    (1) خلافاً لِما يفهم من هذه اللفظة في الفارسية اليوم .


    الصفحة 32

     نعم إذا أضيفت كلمة ( أهل ) إلى ( الكتاب ) ، فإنّهما تشكّلان اصطلاحاً قرآنياً خاصاً في أنّ المراد هم أتباع الكتب السماوية ، فتقول الآية القرآنية (153) من سورة النساء :
    ( يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنْ السَّمَاءِ ) .
    وقد تكرّرت كلمة : ( الكتاب ) فيها مرّتين ، الأولى منهما يراد منها ( الكتاب السماوي ) بعد إضافة ( أهل ) إليها ، والثانية يقصد فيها كتابة عادية .
    هذا بالإضافة إلى وجود جملة : ( وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ) التي تشكّل قرينة على أنّ المراد هو أنّك لم تكن تقرأ أو تكتب ، و لو كنت تحسنهما لاتهموك باستقاء المعلومات من مكان آخر ، ولكنّهم لم يجدوا مجالاً لهذا الاتهام .
    أما لو كان المراد بـ ( الكتاب ) الكتب المقدّسة المكتوبة باللغات الأخرى ، فإنّ معنى الآية سوف يكون : ( وما كنت تقرأ باللغات الأخرى أو تكتب بها ) ومن الطبيعي بطلانه ؛ لأنّ مجرّد قراءة تلك الكتب بتلك اللغات كانت كافية لإثبات التهمة ، فيكفي أن يكون (ص) قادراً على قراءتها بتلك اللغات وكتابتها من جديد بلغته العربية .
    نعم ، توجد نكته في البين يمكنها أن تؤيّد تفسير الدكتور المذكور ، وإن لم يلتفت إليها ! لا هو ولا سائر المفسّرين ، وهي وجود كلمة : ( تَتْلُو ) المأخوذة من مادّة التلاوة ، وهي ـ كما يقول الراغب ـ تختص بقراءة الآيات المقدّسة بخلاف كلمة : ( تقرأ )

    الصفحة 33

    الأعمّ منها . وعليه فإنّ المراد من الكتاب هنا هو ( الكتاب المقدّس ) ؛ لاقترانه بكلمة ( تتلو ) .
    إلاّ أنّ الظاهر هو أنّ علّة الإتيان بكلمة ( تتلو ) ناشئة من كون مورد البحث هنا ( القرآن ) ، فجئ بهذه الكلمة تحقيقاً للمشاكلة وهي من الصناعات البديعية ، فيمكنك أن تقول : ( أنت تتلو القرآن فعلاً ولم تكن تتلو قبله أيّ كتابة أخرى ) .

    آية أخرى :
    وتوجد آية أخرى تشعر بعدم تعلّم الرسول الأكرم (ص) وهي الآية (52) من سورة الشورى : ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ ) .
    فهي تؤكّد على أنّه (ص) لم يكن يعرف الكتابة قبل نزول الوحي ، ولم يذكر الدكتور هذه الآية ولعلّه لو كان التفت إليها لعلّق عليها : بأنّ المراد هو  الكتاب المقدّس المكتوب باللغات غير العربية ، ولكنّا نجيبه بنفس الجواب السابق .
    هذا وقد ذكر المفسّرون هنا ـ لعلّة نجهلها ـ أنّ المقصود بالكتاب هنا هو القرآن ـ وعلى هذا التفسير ـ تخرج هذه الآية عن مورد الاستدلال .
    وثالثاً : فإنّه لم تكن للمفسّرين المسلمين وجهة نظر واحدة في تفسير كلمة ( أُمّي ) رغم أنّهم اتّفقوا على أنّه (ص) لم يكن يحسن القراءة والكتابة قبل عصر الرسالة ، لا بل أجمع عليه

    الصفحة 34

     علماء الإسلام وهو بنفسه دليل قاطع على أنّ منشأ اعتقاد المسلمين بعدم إتقانه لهما ليس هو تفسير كلمة ( أُمّي ) . وعلى أيّ حال فما هو مفهوم كلمة ( أُمّي ) ؟


    للمفسّرين في كلمة ( أُمّي ) ثلاثة تفسيرات :
    التفسير الأوّل : غير المتعلّم وغير العارف بالخط والكتابة . وتؤيّد الأكثرية هذا الرأي أو ترجّحه على الأقل ، ويقول المؤيّدون : إنّ الكلمة منسوبة إلى ( الأُمّ ) . فالأُمّي هو الذي بقي من حيث الإطلاع على الكتابات والمعلومات الإنسانية على الحال الذي ولدته أُّمّه فيه . أو هي منسوبة إلى (الأُمّة) ، فالأُمّي من كان على شاكلة أكثرية الناس ، وهي لا تعرف القراءة والكتابة ، في حين أن الذين يعرفونها قليلون . وهكذا يقال عن ( العامّي ) الذي هو على شاكلة عامّة الناس (1) .
      وقال البعض أنّ أحد معاني الأُمّة هي ( الخَلْق ) ، فالأُمّي هو الذي بقى على الخِلقة والحالة الأولى ، من عدم المعرفة والاطلاع ، وقد استند هذا البعض إلى بيت للأعشى يوضح هذا المعنى .
    وعلى أيٍّ ، فسواء كانت مشتقّة من ( أُمّ ) أو ( أُمّة ) ، وأيّاً كان معنى ( الأُمّة ) ، فإنّها تعني : غير الكاتب والقارئ . 
    ــــــــــــــ
    (1) المفردات في ذيل كلمة ( أُمّ ) ومجمع  البيان ذيل الآية 78 ، البقرة .