Rss Feed

  1. يستفاد من نصوص التواريخ القديمة الإسلامية المعتبرة أنّ رسول الله (ص) كان يملك كتّاباً في المدينة . وكان هؤلاء
    ــــــــــــ
    (1) سيرة الزيني دحلان ، ج1 ، ص229 ، طبع دار المعرفة ـ بيروت .
    (2) بحار الأنوار ، ج16 ، ص 135 .

    الصفحة 17

    يكتبون الوحي وحديث النبيّ ، والعقود والمعاملات بين الناس ، والعهود التي كان يعطيها الرسول (ص) للمشركين وأهل الكِتاب ، ودفاتر الصدقات والضرائب ودفاتر الغنائم والأخماس ، والرسائل الكثيرة التي كان (ص) يرسلها إلى الأطراف . وها هو التأريخ ينقل لنا علاوة على الوحي الإلهي والأحاديث الشفهية له (ص) ، الكثير من عهود النبيّ ورسائله .
    فهذا محمّد بن سعد في كتابه [ الطبقات الكبيرة ، ج2 ، ص30 ـ 38 ] يذكر ما يقرب من مئة رسالة بمتونها . وبعض هذه الرسائل مرسل إلى سلاطين العالم وحكّامه ورؤساء القبائل والأمراء الخاضعين للروم أو الفرس في خليج فارس ، وسائر الشخصيات ، وهي تدعوهم للإسلام أو تمتلك صفة تعليم عام يمكن أن يشكّل أصلاً فقهياً وغير ذلك . والكثير من هذه الرسائل معلوم الكاتب ، إذ يذكر كاتب رسالة النبيّ (ص) اسمه في آخر الرسالة ، ويذكر أنّ أوّل من نشر هذه العادة ( أي : كتابة اسم الكاتب في آخر الرسالة ) هو أُبي بن كعب الصحابي المعروف .
    هذا ولم يكتب النبيّ بخطّ يده أيّاً من هذه الرسائل والعهود والدفاتر ، فإنّنا لا نجد موضعاً يقال فيه : أنّ رسول الله (ص) كتب الرسالة الفلانية بخطّ يده . بل لم يُرَ موضع يكتب فيه رسول الله (ص) آية قرآنية بخطّه ، في حين أنّ كتّاب الوحي كتب كلّ منهم قرآناً بخطّ يده .
    فهل من الممكن أن يكون رسول الله (ص) يعرف الكتابة


    الصفحة 18

    ولكنه لا يكتب قرآناً أو سورة منه أو آية بخطّ يده ؟!
    وقد جاءت أسماء كتّاب الوحي في كتب التواريخ ، فيقول اليعقوبي في تأريخه : ( وكان كتّابه الذين يكتبون الوحي والكتب والعهود : عليّ بن أبي طالب ، عثمان بن عفّان ، وعمرو بن العاص بن أُمَية ، ومعاوية بن أبي سفيان ، وشرحبيل بن حسنة ، وعبد الله بن سعد أبي سرح ، والمغيرة بن شعبة ، ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت ، وحنظلة بن الربيع ، وأُبي بن كعب ، وجهيم بن الصلت ، والحصن النميري ) (1) .
    أمّا المسعودي في ( التنبيه والإشراف ) فهو يفصل إلى حدّ ما فيذكر نوع عمل الكاتب ممّا يوضح سعة مجال عملهم ووجود نوع من التنظيم وتقسيم العمل فيما بينهم ، فيقول :
    ( وكان خالد بن سعيد بن العاص بن أُمَية بن عبد شمس ابن عبد مناف ، يكتب بين يديه في سائر ما يعرض من أموره . والمغيرة بن شعبة الثقفي ، والحصين بن نمير ، يكتبان أيضاً فيما يعرض من حوائجه . وعبد الله بن الأرقم بن عبد يغوث الزهري ، والعلاء بن عقبة ، يكتبان بين الناس المداينات وسائر العقود والمعاملات . والزبير بن العوام ، وجهيم بن الصلت ، يكتبان أموال الصدقات . وحذيفة بن اليمان يكتب خرص الحجاز . ومعيقيب بن أبي فاطمة الدوسي ... وكان حليفاً لبني أسد ، يكتب
    ــــــــــــ
    (1) تاريخ اليعقوبي ، ج2 ، ص80 .

    الصفحة  19

    مغانم رسول الله (ص) وكان عليها من قِبله .  وزيد بن ثابت الأنصاري ثمّ الخزرجي من بني عّم بن مالك بن النجّار يكتب إلى الملوك ويجيب بحضرة النبيّ (ص) ، وكان يترجم للنبيّ بالفارسية والرومية والقبطية والحبشية ، تعلّم ذلك بالمدينة من أهل هذه الألسن ) (1) . وكان حنظلة بن الربيع ... يكتب بين يديه (ص) في هذه الأمور إذا غاب من سمَّينا من سائر الكتَّاب ينوب عنهم في سائر ما يتفرّد به كلّ واحد منهم ، وكان يدعى حنظلة الكاتب . وكانت وفاته في خلافة عمر بن الخطاب بعد أن فتح الله على المسلمين البلاد وتفرقوا فيها ، فصار إلى الرُّها من بلاد ديار مضر فمات هناك ... وكتب له عبد الله بن سعد بن أبي سرح ... ثمّ لحق بالمشركين بمكّة مرتدّاً ، وكتب له شرحبيل بن حسنة الطابخي ... وكان أبان بن سعيد والعلاء بن الحضرمي ربّما كتبا بين يديه وكتب له معاوية قبل وفاته بأشهر . وإنّما ذكرنا من أسماء كتّابه (ص) من ثبت على كتابته ) . ( التنبيه والإشراف ، ص 245 ـ 246 ملخّصاً ) .
    ــــــــــــ
    (1) يذكر جامع الترمذي : أنّ رسول الله أمر زيد بن ثابت أن يتعلّم اللغة السريانية . وكذلك ينقل عنه البلاذري أنّه قال : أمرني رسول الله (ص) أن أتعلّم له كتاب يهود ، وقال لي : إنّي لا آمن يهوداً على كتابي . فلم يمرّ بي نصف شهر حتى تعلّمته . فكنت أكتب له إلى اليهود ، وإذا كتبوا إليه قرأت كتبهم .
    ( فتوح البلدان ، ص 583 ، طبع مكتبة النهضة . وشبيه بهذا ما جاء في جامع الترمذي أيضاً ) .


    الصفحة 20

     ولم يذكر المسعودي هنا في كتاب الوحي وكتاب العهود الإسلامية اسم الإمام عليّ ، وعبد الله بن مسعود ، وأبي بن كعب . وكأنّه أراد أن يذكر الأشخاص الذين كانوا يمتلكون بالإضافة لكتابة الوحي سمة أخرى .
    ونحن نقع في التواريخ والأحاديث الإسلامية على قضايا كثيرة يأتي فيها الكثير من المسلمين القريبين والبعدين مكاناً إلى النبيّ (ص) ويطلبون منه النصيحة ، فكان (ص) يجيبهم بكلامه الحكيم البليغ ، وتؤكّد التواريخ أنّ تلك الأحاديث كانت تكتب إمّا في المجلس أو بعد ذلك ، ولكنّا نلاحظ أنّه (ص) لم يكتب سطراً واحداً في جواب هؤلاء ، ولو كان قد كتب لاحتفظ به المسلمون وتبرّكوا به واعتبروه فخراً لهم ولقبائلهم . وهذا ما نلاحظه في حياة الإمام علي (ع) وسائر الأئمّة ، حيث احتفظ بقسم من خطوطهم لمدّة سنين ، بل قرون ، في بيوتهم وبيوت شيعتهم ، وهناك نسخ موجودة لحدّ الآن تنسب إليهم (ع) .
    وما الحادثة المعروفة لزيد بن علي بن الحسين ويحيى بن زيد ، وكيفية الاحتفاظ بالصحيفة السجّادية إلاّ شاهد على هذا المدّعى . 
    وينقل ابن النديم في الفنّ الأوّل من المقالة الثانية من الفهرست حادثة طريفة ، فيقول (1) :
    ــــــــــــ
    (1) الفهرست ، طبع الاستقامة ، ص 67 .

    الصفحة 21

    ( قال محمّد بن إسحاق : كان بمدينة الحديثة رجلٌ يقال له : محمّد بن الحسين ، ويعرف بابن أبي بعرة ، جمّاعةٌ للكتب ، له خزانة لم أرَ لأحدٍ مثلها كثرةً ، تحتوي على قطعة من الكتب العربية في النحو واللغة والأدب والكتب القديمة ... فرأيت عجباً ، إلاّ أنّ الزمان قد أخلَقَها وعمل فيها عملاً أدرسها وأحرفها ، وكان على كلّ جزءٍ أو ورقة أو مدرج توقيع بخطوط العلماء واحداً إثر واحد ، فذكر فيه خطّ من هو ، وتحت كلّ توقيع توقيع آخر خمسة أو ستة من شهادات العلماء على خطوط بعضٍ لبعض ، ورأيت في جملتها مصحفاً بخط خالد بن أبي الهياج صاحب عليّ (رَضي الله عنه) ... ورأيت فيها بخطوط الإمامين الحسن والحسين ، ورأيت عنده أمانات وعهوداً بخط أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) وبخطّ غيره من كتّاب النبيّ (ص) ) .
    هكذا كانوا يحتفظون بهذه الآثار المباركة والى هذا الحدّ ، فكيف يمكن أن يكون للرسول (ص) قد كتب سطراً واحداً على الأقل ولكنّه لم يبقَ مع عناية المسلمين العجيبة بحفظ الآثار المباركة ؟! فمسألة كتابته (ص) حتى في عصر الرسالة منتفية طبق القرائن والإمارات القطعية ، أمّا مسألة قراءته في عصر البعثة فلا يمكن نفيها جزماً ، وإن كنّا لا نملك دليلاً قطعياً على قراءته فيه ، بل تخالف ذلك أكثرُ القرائن ...